سقوط فرنسا في أفريقيا- تحولات القوة وصعود نماذج جديدة

يبدو أننا نشهد الفصول الختامية للنفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية، حيث تتسارع التغيرات في علاقات فرنسا مع دول القارة السمراء، وتتوالى التصدعات بشكل ملحوظ. فبعد أن كانت تشاد بمثابة قاعدة خلفية متينة للجيش الفرنسي، وموقعًا لوجستيًا استراتيجيًا، اتخذت السلطات التشادية قرارًا حاسمًا بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها.
يمثل هذا القرار ضربة قوية لقدرة الجيش الفرنسي على تنفيذ عملياته العسكرية في المنطقة بكفاءة وفعالية.
وتفاقم الوضع بطلب الرئيس السنغالي باصيرو ديوماي من فرنسا سحب 350 جنديًا من بلاده، لينضم بذلك إلى قائمة متزايدة من الدول التي اضطرت فرنسا إلى سحب قواتها منها عقب سلسلة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها تلك الدول، والتي ترافقت مع تصاعد المشاعر الشعبية المعادية لفرنسا. وتشمل هذه القائمة دولًا مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
يعكس هذا الوضع المتدهور حالة فرنسا المضطربة سياسيًا، والمثقلة بالديون المتراكمة، وفقدانها للقيادات السياسية المحنكة. لم تعد فرنسا قادرة على تقديم الدعم والمساعدة التي تحتاجها أفريقيا.
في المقابل، يتصاعد نفوذ المغرب في غرب أفريقيا، وجنوب أفريقيا في وسط القارة وجنوبها، بينما تبرز رواندا كنموذج اقتصادي ملهم، مما يسهم في إعادة رسم ملامح أفريقيا الجديدة.
لم تعد القارة السمراء هي تلك التي عرفها العالم في حقبة ما بعد الاستعمار، كما لم تعد فرنسا هي النموذج الذي يتطلع إليه الأفارقة، في ظل ظهور نماذج بديلة أكثر جاذبية، مثل الصين وروسيا والبرازيل، التي تقدم شراكات اقتصادية وتجارية مختلفة.
فرنسا، المنشغلة بقضاياها الداخلية والمتورطة في الأزمة الأوكرانية، تفتقر إلى الرؤية السياسية المبتكرة لتنشيط وجودها في أفريقيا، حتى أن سياستها التقليدية تجاه القارة السمراء وصلت إلى طريق مسدود. حاول الرئيس الفرنسي ماكرون استمالة الأفارقة من خلال سياسة إعادة الآثار المنهوبة من أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية، وكان آخرها إعادة قطع أثرية إلى إثيوبيا، إلا أن ردود الفعل الأفريقية كانت فاترة.
تدير الدول الأفريقية ظهرها لفرنسا، حيث اعتمدت مالي دستورًا جديدًا في عام 2023 يتخلى عن اللغة الفرنسية كلغة رسمية، كما استبدلت رواندا اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات، في حين انضمت توغو والغابون إلى الكومنولث في عام 2022.
ومع ذلك، تظل اللغة الفرنسية أداة توحيد لعدد من الدول الأفريقية المتنوعة ثقافيًا ولغويًا، والتي تفتقر إلى لغة مشتركة، في الوقت الذي يقيم فيه أكثر من 200 ألف فرنسي في العديد من الدول الأفريقية.
كل ما سبق يؤثر سلبًا على قوة فرنسا الناعمة والخشنة في أفريقيا، ويؤكد ضعف سيطرة فرنسا على اقتصاد العديد من الدول الأفريقية. كان للنخب الفرنكفونية التي تلقت تعليمها في المدارس والجامعات الفرنسية دور في تكريس التبعية الاقتصادية والثقافية لفرنسا، ولكن مع زيادة المنح الدراسية من دول أخرى خلال العقود الثلاثة الماضية، انعكست هذه السياسة سلبًا على نفوذ فرنسا.
فقد بدأت الولايات المتحدة والصين وروسيا في جني ثمار ذلك على حساب فرنسا. وعلى الصعيد الاقتصادي، تواجه شركة توتال، التي لها فروع في 40 دولة أفريقية كمورد للطاقة، تحديات كبيرة في الدول الأفريقية الفرنكوفونية، فيما لا تواجه نفس الصعوبات في دول أفريقيا الأخرى. وجاء تأميم اليورانيوم في النيجر والذهب في بوركينا فاسو ليصب في المصلحة الروسية، όπου يتم توجيه الموارد الاقتصادية الأفريقية نحو السياسة.
أفريقيا، التي ظلت لعقود مجالًا جيوسياسيًا لفرنسا، أصبحت ذات توجهات معادية لفرنسا. لم تدرك فرنسا أن الجامعات الأفريقية ستخرج نخبًا قادرة على التفكير والتحليل بشكل مستقل عن التأثير الفرنسي.
تشكل هذه النخب وعيًا عامًا باستقلال أفريقيا وبضرورة إدارة الموارد الوطنية، وهذا الجانب بالتحديد هو ما يتجاهله المحللون الغربيون. فقد نضجت أفريقيا لدرجة أن المشاعر المعادية لفرنسا، خاصة بين الشباب غير الملتزم بالماضي، أصبحت أكثر وضوحًا، حيث يدرك هؤلاء أن فرنسا استنزفت موارد بلادهم عبر السيطرة على التعدين والبترول والنقد، من خلال الفرنك الأفريقي الذي يتطلب وضع نصف الاحتياطيات النقدية في فرنسا، وعبر دعم الحكام الديكتاتوريين والنخب الفاسدة.
كل ما سبق أدى إلى تراكم المظالم الشعبية وحالة من الاستياء المزمن من فرنسا، حيث أصبحت فضائح رشوة الحكام الأفارقة والتدخل العسكري الفرنسي لدعمهم موضع تساؤل. ويعتقد الروس، ومعهم الصين، أن هذا هو أيضًا الطريق إلى أفريقيا، متجاهلين نمو الوعي العام والرغبة المتزايدة في بناء الذات الأفريقية بعيدًا عن الهيمنة، بغض النظر عن مصدرها. لذلك، فإن النماذج الصاعدة في أفريقيا في هذا الإطار تمثل تحديًا لأي نفوذ مرتبط بالهيمنة والسيطرة على الموارد.
إن تحدي كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر بتشكيل تحالف دول الساحل يمثل تحديًا مباشرًا لكل من الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وهما الهيئتان التقليديتان اللتان تعملان على تنسيق القضايا الإقليمية، وهذا التنسيق يظهر بشكل متعدد في شرق أفريقيا.
لذلك، تفقد فرنسا سيطرتها على يورانيوم النيجر وذهب بوركينا فاسو. وإذا لم يتمكن الحكام الجدد المنشقون عن فرنسا خلال السنوات المقبلة من تحقيق تنمية حقيقية لبلدانهم وحكم رشيد، فسيكونون تحت طائلة الوعي الأفريقي المتنامي، الذي قد يطيح بهم.
فالأفارقة الذين يعانون من الفقر ومن ذل الهجرة لم يعد لديهم ذلك القدر من التسامح الذي منحوه للحركات التي حكمت بعد ما يسمى بالاستقلال عن الاستعمار، بل أصبحت هناك رغبة حقيقية في التنمية وجني ثمارها.
هنا، يجب على فرنسا أن تتبنى سياسات استراتيجية جديدة تقوم على الشراكة لا السيطرة، فالمنافسة على النفوذ في أفريقيا أصبحت شرسة في ظل صعود دول لديها استثمارات مالية ضخمة غير مشروطة بنفوذ سياسي، مثل السعودية وقطر والكويت.
وفي ظل دخول التنين الصيني بقوة وتنامي النفوذ الروسي، إذا ظلت فرنسا تعتقد أنها اللاعب الغربي الرئيسي في أفريقيا، فسوف تواجه تحديًا من داخل الغرب نفسه، يتمثل في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة. لذلك، إذا لم ينسق هؤلاء مع فرنسا، فإن تنافسهم سيفتح الطريق للاعب آخر غير متوقع حتى الآن، وهو تركيا.
إنها، يا سادة، أفريقيا التي ستشكل مستقبل الاقتصاد الدولي خلال السنوات المقبلة، والتي، إذا نهضت، فستغير شكل المعادلات الدولية.
فلننتظر تحولات موازين القوة داخل أفريقيا في السنوات العشر المقبلة.